يحظى مصطلح “decolonization” – الذي يعني “تصفية الاستعمار” أو “التخلّص من الكولونيالية” – بشعبية كبيرة بين الكُتَّاب النشطاء في أفريقيا والأمريكيين من أصول أفريقية، ما يجعل البعض يرى الصعوبة في تحديد معنى المصطلح؛ إذ اكتسب المصطلح شهرة كبيرة بعد صدور كتاب “نغوغي وا ثيونغو”, وهو المؤلف الكينى الذي يعتبر الأب المؤسّس لحوار “تصفية الاستعمار”.
ولم يعُدْ مصطلح “تصفية الاستعمار” يعني فقط إنهاء سيطرة الامبراطوريات الكولونيالية وإيجاد دولة تحافظ على هيمنتها وسيادتها, حيث المصطلح يشير أيضا إلى “إزالة هيمنة القوى غير الأصلية” بأكملها داخل أراضي معينة ومختلف المؤسسات في الأراضي المستعمَرة. بالإضافة إلى اجتثاث الأفكار الكولونيالية التي تجعل سكان الأراضي المستعمَرة يشعرون بالدونية والضعة.
وفي حين يوجد أيضا من يحمّل المصطلح – أعني ” تصفية الاستعمار” – ما لا يحتمله, أو يستغله لإبداء آراء (قد تَبْدُو) مبالغة أو توجهات متشددة ضدّ كيانات معيّنة – مما يجعله في النهاية يقع في ما يُنهي هو عنه. إلا أنّ حقيقتنا كأفارقة ليست مرتبطة فقط بكوننا أصحاب إمبراطوريات عظيمة قبل وصول الأوروبيين، بل من وَعْيِنا لدروس تاريخنا واستلهام المحطات الإيجابية لثقافتنا والتطورات التي تحرزها العالم الخارجي لبناء المستقبل المأمول في القارة وتطوير المجتمع المتقدم الشامل للجميع.
الاستعمار كإحدى المحطات التاريخية
من السهل لأي أفريقيّ أو قارئ للتاريخ الأفريقي أن يشعر بالغضب وينفعل تجاه المظالم التي واجهها الأفريقيون في حقبة الاستعمار. ومع ذلك تتطلّب عملية “تصفية الاستعمار” ألا نضع الاستعمار في النقطة المركزية للثقافة الأفريقية أو نُضفي طابعًا رومانسيًا على تاريخ القارة؛ فأفريقيا تملك تاريخا ثريّا وطويلا قبل وصول الاستعماريين وبعد مغادرتهم المزعومة. ولا يمنع هذا أيضا من تناول هذه الحقبة كإحدى المحطات التي مرّت عليها القارة.
وقد كتب الفيلسوف فرانز فانون: “الإمبريالية تترك وراءها جراثيم العفن التي يجب أن نكتشفها سريريًا ونُزيلها من أرضنا ومن عقولنا أيضًا”؛ لأن فصل الفرد عن ثقافته وأصله من التكتيكات التي استخدمها الكولونياليون لإخضاع قارة تحت سيطرتها واستعباد أجزاء أخرى. وكانت آثارها عالقة وظاهرة في العديد من التحديات التى تعاني منها مجتمعاتنا الإفريقية.
ومن ثمّ يجب أن تشمل عملية التخلص الكامل من الاستعمار تمكينَ المواطنين من التحرّر من الاستغلال الأجنبي اقتصادياً واجتماعيا كي يتمكنوا من تحقيق الاكتفاء الذاتي وتسخير الموارد الطبيعية والمواهب الابتكارية لتحقيق النجاح من خلال إرادتهم الشخصية.
وإذ كانت القوى الولونيالية في خطواتها الأولية تغرس فكرة تفوّقها وأفضليتها في نفوس سكان الأراضي المستعمَرة كي تتمكّن من التحكم في عملهم وعقولهم حتى يُوجِد هؤلاء السكان مبرّراتٍ للاستعمار؛ فإن العملية الضرورية التالية بعد الاستقلال الوطني التامّ هي تصفية استعمار العقل.. وهي عملية طويلة متواصلة لصعوبة تغيير أنماط التفكير والإدراك.
أمّا “الهدف المركزي في تصفية استعمار العقل الأفريقي” – يقول الكاتب النيجيري “Chinweizu Ibekwe” في كتابه “تصفية استعمار العقل الافريقي” – فهو “الإطاحة بالسلطة التي تمارسها التقاليد الغريبة على أفريقيا. وهذا يتطلب تفكيك المعتقدات العرقية البيضاء، والهياكل التي تدعمها في كل مجالات الحياة الأفريقية. ومع ذلك، يجب التشديد على أن تصفية الاستعمار لا يعني الجهل بالتقاليد الأجنبية؛ يعني ببساطة إنكار سلطتهم (علينا) وسحب الولاء منهم, مع الاعتراف بأن التقاليد الأجنبية جزء من حصاد التجربة الإنسانية وينبغي أن يعرفها المرء بالتأكيد. … ويجب استخدام عناصر من تقاليد أخرى شريطة أن تكون متسقة مع الاستقلال الثقافي الأفريقي وتخدم الأهداف الأفريقية. ولكن لا ينبغي .. التضحية بالمصلحة الأفريقية لصالح هذه التقاليد الأجنبية.”
إصلاح الأنظمة التعليمية
أشرتُ في ورقتي حول إصلاح الأنظمة التعليمية في أفريقيا, التي نُشرت في العدد 38 من مجلة قراءات إفريقية, إلى أهمية الأصالة الأفريقية في عملية إصلاح التعليم؛ حيث تهدف أنظمة التعليم الموروثة من الاستعمار في غالبية الدول الأفريقية إلى إنشاء قوة عمل تعتمد على الكولونياليين في روح المبادرة والإبداع وتخدم مصالحهم وتلبّي احتياجاتهم, بينما يفتقر الطلاب الأفارقة إلى مجموعة من المهارات والمعرفة التي تجعلهم أعضاءً متكاملين في مجتمعاتهم المحلية.
وغالبا ما يواجه دعاة ضرورة وضع استراتيجية التعليم ثنائي اللغة القائم على اللغة الأم, عددا من الانتقادات أكثرها تكرارا؛ أن أفريقيا موطن لـ 2144 لغة, وأنّ نظريات التطور تعتبر هذا عائقًا أمام النمو الاقتصادي والاجتماعي. ولكنّ علماء اللغويات التربويين والمفكّرين التربويين حتى في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) يؤكدون ويصرّون على أنّ تعدد اللغات في القارة الأفريقية موردًا قويًا يجب استغلاله في التعليم بدءا من المستوى الأساسي إلى المستوى العالي.
ويمكن أن تستفيد الحكومات الأفريقية من نجاحات العديد من الأسواق الناشئة والمجتمعات الأخرى، والبلدان المتقدمة, مثل كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا وكل أوروبا وأمريكا الشمالية، التي كانت لغة التدريس في مدارسها هي اللغة الأم للأطفال (وتُعرف أيضًا باللغة الأولى أو اللغة المنزلية).
ومما يُوجب اعتبار استخدام اللغة الأفريقية الرئيسية في كل منطقة للتعليم, كأحد المنطلقات الأساسية لإصلاح الأنظمة التعليمية – ليس فقط لأنّ تعليم الأطفال في المدارس الابتدائية بلغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية أو البرتغالية) يؤثر سلبًا في الأطفال؛ بل لأنّ نسبة قليلة من هؤلاء الأطفال فقط هم من يشاركون في عملية التعلّم والتفاعل في الفصل, وقليل منهم من يتمكن من الوصول إلى المستوى النهائي المرغوب من التعليم.. وهذا ما تؤكده الدراسات والتجارب التي أُجريتْ في غانا وفي عدة دول أفريقية.
وبغضّ النظر عن حقيقة أن تعليم الطلاب باللغة المحلية لا يسلب منهم تعلّم لغة أخرى – بعد حصولهم على مستوى معيّن من التعليم, فإنّ عملية تصفية استعمار العقل لن تكتمل دون إصلاح التعليم في الدول الأفريقية. بل يعدّ إصلاح الأنظمة التعليمية أحد الطرق الفعالة لتصفية الاستعمار والنأى عن الترويج للغات القوى الاستعمارية, وتراثها الذي لا يخدم مصالح دول القارة وتقدّمها.
الأدب واللغات الأفريقية
تتباين آراء مثقفي أفريقيا في عدة قضايا متعلقة بالكولونيالية (أو الاستعمار) وجرائمها (بما فيها هدم الحضارات والممالك الأفريقية, والاسترقاق أو ما يسمى “تجارة الرقيق”) وتأثيراتها على أفريقيا المعاصرة. وتتأثّر مواقف كل منهم بتوجهاتهم الفكرية ومدارسهم العلمية. ولا غرابة إذًا أن كان هناك اختلاف أيضا بين أدباء القارة في عنصر اللغة الأفريقية وأهميته في الكتابات الأفريقية.
وقد أثار الناقد الأدبي النيجيري الشهير “أوبي والي Obi Wali” مسألة اللغة الأفريقية هذه بعد سنوات قليلة من استقلال عدد من الدول الأفريقية – وبالتحديد بعد مؤتمر الكُتاب الأفارقة (باللغة الإنجليزية) في جامعة ماكيريري الأغندية عام 1962.
وفي مقاله بعنوان “الطريق المسدود للأدب الأفريقي“، أشار “والي” إلى أنّ الأدب الأفريقي باللغات الغربية لن يصبح سوى “ملحق ثانوي في التيار الرئيسي للأدب الأوروبي”, وأنه في نيجيريا على سبيل المثال، لن يتمكن سوى “واحد بالمائة” من السكان من قراءة “رقص الغابة” للأديب النيجيري “وولي سوينكا Wole Soyinka” لأنها مكتوبة باللغة الإنجليزية. ولمعالجة تحديات التنوع وتعدد اللغات الأفريقية، دعا “والي” إلى ترجمة الأدب والكتابات باللغات الأفريقية إلى اللغات الغربية لسدّ هذه الثغرة.
وفي حدّ تعبير “أوبي والي” :
“يتساءل المرء عما كان سيحدث للأدب الإنجليزي على سبيل المثال ، إذا كان كتُّابٌ مثل سبنسر ، شكسبير ، دون ، و ميلتون، قد أهملوا اللغة الإنجليزية، وكتبوا بالفرنسية أو اللاتينية فقط لأنّ هذه اللغات الكلاسيكية كانت لغات عالمية في أوقاتهم”.
وفي المقابل، يرفض كُتّاب آخرون موقف “والي” – منهم العملاق الأديب “تشينوا أتشيبي” (الذي ساعد الكاتب الكيني “نغوغي وا ثيونغو” على نشر روايته الأولى عبر سلسلة هاينيمان للأدباء الأفريقيين في عام 1964). وكان ردّ “أتشيبي” لـ “أوبي والي” أن اللغة الإنجليزية تسمح بالتواصل عبر مختلف اللغات الأفريقية, وأنها تساعد أيضا على الوصول إلى جماهير أوسع في الغرب.. فالإنجليزية – في رأي أتشيبي – “لغة القوة”, وهي لغة باستطاعتنا أَفْرِقَتها لتحمل التجربة الأفريقية.
وقد عرض البروفيسور الأديب الكيني الكبير “نغوغي وا ثيونغو” مسألة اللغة مرة أخرى في عام 1986 – أي بعد مرور 26 عاما من مؤتمر عام 1962 للكُتاب الأفارقة”, حيث ذكر في كتابه الشهير “تصفية استعمار العقل: سياسة اللغة في الأدب الأفريقي” أنّه بعد مراجعته لهذا المؤتمر وطبيعته الاستثنائية، “أستطيع أن أرى أن هذا المؤتمر يحتوي على شذوذات سخيفة. أنا، كطالب، يمكنني التأهل للمؤتمر على أساس (كتابتي بالإنجليزية لـ) اثنين فقط من القصص القصيرة المنشورة. . . لكن لا يمكن لكلّ من: شابان روبير – الذي كان آنذاك أعظم شاعر شرق أفريقيّ له عدد من الأعمال الشعرية والنثرية باللغة السواحيلية، والزعيم فَاغُنْوَا – الكاتب الكبير الذي نشر العديد من الأعمال بلغة يوروبا في نيجيريا، أن يتأهّلا (لحضور المؤتمر)”.
ومن خلال أمثلة “نغوغي” السابقة يمكن إدراك التناقضات التي مثّلها مؤتمر عام 1962 والتي تمثّلت في أن اللغات الأوروبية أصبحت المركبات الافتراضية للأدب الأفريقي؛ وكأنّ مصطلح “الأدب الأفريقي” (African Literature) يعني الأدب الإفريقي بالإنجليزية أو الفرنسية أو البرتغالية, بينما على الذين يكتبون باللغات الأفريقية تبرير سبب استخدامهم للغاتهم الأم في أعمالهم الأدبية.
تأمين القاعدة وتصفية استعمار العقل
تجلّى موقف البروفيسور “نغوغي وا ثيونغو” السابق مرة أخرى في عام 2017 محاضرته بجامعة ويتس الجنوب أفريقية بعنوان “تأمين القاعدة، وتصفية استعمار العقل“؛ إذ حفّز “نغوغي” المحاضرين باستخدام الشاشة الكبيرة حيث وضع كل دول العالم تقريبًا على خريطة قارة أفريقيا؛ وكانت النتيجة أن ابتلعت خريطة أفريقيا كل دول العالم التي وضعها عليها – ما عدا أستراليا. وهكذا قدّم “نغوغي” دفعة من الثقة المطلوبة للحاضرين الذين كان أغلبهم أفارقة.
إن متابعة محاضرة “نغوغي” تكشف أهمية تأمين القاعدة لأفريقيا من خلال بناء ثقة الأفارقة في أنفسهم وقدراتهم أولا, وثقتهم في إمكانيات قارتهم ومكانتها التي يجب أن تحتلّها بين القارات والأماكن الأخرى. وكأن “نغوغي” يقول: حان الوقت لتأمين القاعدة.. حان الوقت لأن تبادر أفريقيا دورها وأن تحتل تلك المساحة من الهيمنة.
وفي حد تعبيرات “نغوغي”:
“لقد قدّم المثقف الأفريقي الكثير لبقية العالم … ولكن ما قدّمه غالبا ما يكون غير مرئي.”
“ليست اللغات الأفريقية هي التي تهدد اللغة الإنجليزية، ولكن صانعي السياسات الأفريقية ما بعد الاستعمار غالبا ما يصرّون على أنها تهددها.”
“استخْدِم اللغة الإنجليزية … ولكن لا تدع اللغة الإنجليزية تستخدمك.”
“في الغزو الاستعماري، تفعل اللغة للعقل ما يفعله السيف لجثث المستعمَرين.”
“اللهجات من أجل الوصول: … ففي حين تتقن القادة الأفارقة لهجاتهم، يشحذ الأوروبيون الأدوات للوصول إلى مواردهم [الأفريقية].”
“إذا كنت تفهم جميع لغات العالم ولكنك تجهل لغتك الأم، فهذا هو الاسترقاق. ومعرفة لغتك الأم وجميع اللغات الأخرى أيضا هو التمكين.”
وعلى كلٍّ, لا يعني إنهاء الكولونيالية فقط بانتهاء السيطرة الكولونيالية وسيادتها, ولكن أيضا بالقضاء على النظرة أو العقلية التي عادة ما ينظر بها الكولونيالي (أو المستعمِر) إلى مجتمع ما له مواقف أو وجهات نظر مختلفة. كما أنّ الشخص الذي تمّ تصفية عقله من الاستعمار يقبل ماضيه، ويقوّم الجوانب الناقصة في حاضره, ويخلق مستقبله بلغاته وثقافاته وعاداته وبما يملكه من الموارد – بغض النظر عن العقبات التي تقف في طريقه.