الماجيرانسي في شمال نيجيريا.. إرث تاريخي يأبى الاندثار

حكيم ألادي نجم الدين
حكيم ألادي نجم الدين - رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.

برز الماجيرانسي, وهو نظام تعليم إسلامي, كأحد القضايا الرئيسة في الخطاب العام بشمال نيجيريا في الآونة الأخيرة؛ إذ رغم دور النظام البالغ الأهمية في تشكيل الهوية الإسلامية الشمالية النيجيرية, وما قدمه من إنتاج فقهاء الإسلام والأمراء وصانعي السياسات، وتشكيله المدن الشمالية الرئيسة بحركاتها العلمية؛ إلا أن سمعته تراجعت في العقود الماضية متتبعة الاتجاهات السلبية التي بدأت مع سيطرة الإدارة الكولونيالية البريطانية على شمال نيجيريا. وهذا التراجع للنظام مهد الطريق لظهور أشكال التحديات التي واجهها الماجيرانسي إلى اليوم، وأثار الجهود لإصلاحه ودعوات إلغائه.

الماجيرانسي والإسلام في شمال نيجيريا

ارتبط تاريخ الإسلام في المنطقة التي تعرف اليوم بشمال نيجيريا بتاريخ الإسلام في بلاد السودان التي كانت المنطقة جزءا منها. وقد وصل إليها الإسلام – أي شمال نيجيريا – في القرن الحادي عشر الميلادي عبر التُّجّار. فكان الماجيرانسي قديما قدم الإسلام فيها، حيث بدأ في إمبراطورية كانم-بورنو (التي كانت موجودة من القرن الثامن الميلادي حتى عام 1900م في المناطق التي تشمل أجزاء مما يعرف اليوم بنيجيريا والنيجر والكاميرون وليبيا وتشاد), وتبنّت الماجيرانسي لاحقا – بعد نجاح جهاد الشيخ عثمان بن فوديو – خلافةُ سوكوتو (التي كانت موجودة من عام 1804م حتى عام 1903م وضمت جزء مما يعرف اليوم بدول نيجيريا والكاميرون وبوركينا فاسو والنيجر).

والماجيرانسي نظام التعليم الإسلامي القائم على هجرة “الماجيري” والذي يُقصد به في لغة الهوسا التلميذ أو طالب العلوم الإسلامية الذي رأى أولياء أموره أن بُعْدَه عن المنزل وهجرته إلى (تسانغايا) أفضل له حفظا للقرآن الكريم, وأسهل له تعلّمًا للعلوم العربية والفقهية, وأقوى له استيعابا للتدريبات والأخلاق المستندة إلى الشريعة الإسلامية. واعتمادا على هذا الاعتقاد يُرسَل الأبناء إلى مدارس العلماء البارزين وفقهاء الإسلام المشهورين في المناطق المجاورة أو البلدان الأخرى مرفقا معهم رسالة عربية أو هوساوية بالخط العجمي (الأبجدية العربية المعروفة في المنطقة) موجهة إلى العالم والفقيه موضحة هدف هجرة الطفل إليه. وعلى هذا كان “الماجيري” مشتق من الكلمة العربية “المهاجر” تأسيا بهجرة نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه من مكة إلى المدينة المنورة.

إن اعتماد الماجيرانسي على التعاليم الإسلامية – التي تحثّ المسلمين على إيثار المعرفة وجعلها إحدى الركائز الأساسية لتكوين حياة المسلم ومجتمعه – يتماشى مع أهداف ملوك كانم-بورنو والسلاطين والأمراء الآخرين في خلافة سوكوتو الذين رسّخوا دعائم الحركة العلمية عبر تسانغايا (التي تعني مدارس تعليم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية). وكانت النتيجة أن دفع هذا النظام التعليمي سكان الأراضي الشمالية النيجيرية إلى مكانة حضارية كانت تُحسَد عليها في مجالات محو الأمية والتأليف والتطور الاجتماعي والدبلوماسي والتعاون الاقتصادي مع المجتمعات الأخرى في الساحل الإفريقي والمغرب العربي.

وباعتباره نظام التعليم الرسمي للإمبراطوريتين (كانم بورنو وسوكوتو)؛ فقد موّلتاه بالأموال العامة ودعمته مجتمعاتهما وأولياء الأمور والطلاب والشيوخ والسلطات المحلية الأخرى. وهذا التمويل الرسمي والدعم المجتمعي وإدارة بعض هذه المدارس للأعمال الزراعية كلها مكّنت المعلمين والشيوخ من تعليم الطلاب مجانا بغض النظر عن كثرة عددهم أو كون بعض الطلاب جاؤوا من مناطق بعيدة أو دول تاريخية أخرى, حيث كانوا يُمنَحُون المأوى والطعام بغض النظر عن ضآلة الدخل من العملية الدراسية نفسها. ولذلك لم يكن خرّيجو الماجيرانسي مجرّد معلمين وواعظين وأئمة مساجد ومؤلفين، بل كان منهم أبناء النخبة الحاكمة وموظفي الوكالات الحكومية والمؤسسات شبه الحكومية والتُجّار.

ولم تكن أدوار الماجيرانسي محصورة فقط في حقبة ما قبل الاستعمار؛ إذ كان خريجّوه إبان وصول الكولونيالية البريطانية لشمال نيجيريا عنصرا أساسيا في سياسة الحكم غير المباشر الذي أدخلته السلطات الاستعمارية في المنطقة, حيث كانوا هم المثقفين القادرين على قراءة لغة الهوسا وكتابتها بنظام الخط العجمي. فوظفتهم السلطات الكولونيالية البريطانية في إداراتها ومكاتبها المختلفة.

الاستعمار البريطاني وخنق الماجيرانسي

أبعد الكولونياليون البريطانيون في نيجيريا عددا من الهياكل الدينية والسياسية من تحمّل المسؤوليات الرئيسية والمهام أو السلطات التي كانت تمارسها سابقا, وذلك مخافة استخدامها ضد حكمهم أو بدعوى عدم منفعتها لإدارتهم. ومن بين الهياكل المتأثرة أنظمة الحكم التقليدية الأصلية للإثنيات والقبائل المختلفة حيث سُلبت من حكامها وأمرائها السلطة على مجتمعاتهم وسكانها (وصاروا اليوم تحت سيطرة رئيس الحكومة المحلية). وهذا التطوّر أثّر سلبا في الماجيرانسي الذي بدأ تدهوره عقب غزو البريطانيين شمال نيجيريا في عام 1904 وتوليهم إدارة الخزانة المالية وإلغائهم تمويل الدولة والدعم الرسمي لمدارس الماجيرانسي بدعوى أنها مجرد مدارس دينية لا تخدم أولوية الإدارة الكولونيالية، بالرغم من أن أموال الدولة نفسها وُجِّهَت لاحقًا إلى جهود التنصير وانتشارها في أراضي شمال نيجيريا.

وكانت النتيجة أن انهار نظام التعليم الماجيري وصار معلموه وتلاميذه فيما بعد يُعدّون “أمّيين” لعجزهم في القراءة والكتابة وفق النظام الجديد القائم على “التعليم الغربي” (التعليم العلماني) والمركّز أساسا في القراءة والكتابة باللغة الإنجليزية وتمجيد الكولونياليين وخدمة أجنداتهم رغم انتهاكاتهم على السكان. فكان علماء الإسلام المنتمين إلى الماجيرانسي تلقائيا غير مؤهلين للتوظيف في المكاتب الحكومية والمشاركة في السياسة, وأدى إلى إرسال أولياء الأمور والمجتمع وأصحاب المصلحة الآخرين أبناءهم إلى مدارس النظام الجديد المُمَوّل بموارد الدولة والمعيار الوحيد لتأمين الوظائف الإدارية.

وإذا كانت النسبة الباقية من الشماليين الذين أيدوا الماجيرانسي – رغم المخطط الاستعماري ضده – أداروه  بجهودهم الخاصة, فقد سجّلت مدارس الماجيري زيادة في عدد الطلاب وأصبح اعتناء معلمي مدارس النظام ورعايتهم للطلاب عبئًا كبيرًا, وهو ما أجبر المعلمين والطلاب على امتهان أعمال مختلفة لتغطية نفقاتهم, مثل العمل كحراس الأمن أو مدبري المنزل وغيره. بينما لجأ الطلاب إلى التسوّل والتجوال في شوارع المدن. وهذا التسوّل من الأطفال أحد أسباب الاستياء العام لمعضلة الماجيري وظاهرته في نيجيريا اليوم.

وإلى جانب التسول وفقدان المجتمع والدولة القوى العاملة المستقبلية التي من المفترض أن تدير مختلف قطاعات الاقتصاد ومساعي التطور؛ اتُّهِم معلمو الماجيرانسي بعمالة الأطفال وإساءة معاملتهم في ظل مستقبل غامض لهم. وهناك تحذيرات من أن أطفاله وطلابه قد يقعون فريسة لإغراءات الإرهابيين الذين يبحثون عن جنود جدد لتنفيذ هجماتهم والانضمام إلى قتالهم.

إرث يأبى الاندثار

إن الماجيرانسي الذي كان يحظى بالاحترام والتعاطف والتضامن سابقا صار اليوم يخلق شعورًا مختلطة, وخاصة أن الإحصاءات الوطنية والدولية أظهرت أن معظم أطفال نيجيريا غير الملتحقين بالمدارس والبالغ عددهم 13.2 مليون طفل هم من الماجيرانسي. وقد بُذِلت جهود متعددة لإصلاح النظام وإعادة توجيهه لتحقيق النمو الوطني بسبب أهميته الثقافية والتاريخية وإمكاناته. واعتمدت بعض تلك الجهود على السياسة الوطنية للتعليم وأجندة التحول في إدارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان. كما سعت السلطة الفيدرالية بالتعاون أحيانا مع سلطات الولايات الشمالية إلى دمج الماجرانسي في النظام التعليمي الوطني النيجيري تحت أجهزة مختلفة مع إعادة تأهيل أطفال النظام وتوفير المرافق والبنية التحية لتلاميذه ومعلميه. وكانت بين الولايات المستفيدة النيجر (ولاية في نيجيريا) وجيغاوا وزمفارا وسوكوتو وكيبّي وكدونا وبلاتو وتارابا ويوبي وأداماوا وبوتشي وكتسينا ونسراوا.

على أن تدخلات الحكومة واجهت عدة انتقادات, كما أن عددا من حكومات الولايات الشمالية أبدت عدم رضاها فيها. بل سُيِّست محاولات الحكومة الفدرالية في نهاية المطاف، حيث رأى بعض السياسيين أن المبادرات الفدرالية كانت لاستقطاب دعم الشمال في الانتخابات الرئاسية. فتُرِكت معظم البنى التحتية وجهود تحديث النظام ودمجه للانهيار. و ويبدو أيضا من قلة الاهتمام الرسمي في الشمال بالماجيرانسي, وخاصة في السنوات الأخيرة, أن نظام “التعليم العلماني” الوطني أو النظام الحديث قد خلق نخبة جديدة بين النيجيريين الشماليين، وخاصة في الطبقة الحاكمة، الذين يعتقدون أن الماجيرانسي قد عفا عليه الزمن ولا يمكنه دفع عجلة التنمية الحديثة التي يتطلعون إليها.

تعرض الماجيرانسي بالضربة القوية وشبة القاضية في عام 2020 إبان جائحة وباء كورونا (كوفيد-19) وما نتج عنها من إغلاقات محلية وإقليمية ووطنية لمكافحة انتشارها, حيث نسبت التقارير الطبية في شمال نيجيريا إلى أطفال الماجيري نشر الفيروس. فلجأ عدد من حكومات الولايات الشمالية إلى إجراءات في محاولة لفرض الامتثال الصارم للوائح مكافحة الفيروس، بما في ذلك ترحيل مئات الأطفال المشردين في ولايات مختلفة إلى بلداتهم الأصلية في جميع أنحاء نيجيريا. وأعلن حاكما ولايتي كادونا وكانو، الحاج ناصر الرفاعي والحاج عبد الله عمر غندوجي، أنه أُلغِي الماجيرانسي وأنه في محاولة لاستيعابهم ستُسجَّل أطفال الماجرانسي في نظام المدارس “العلمانية”.

وفي 27 مايو 2023 (الذي مثّل يوم الطفل) أنشأت الحكومة الفدرالية النيجيرية “اللجنة الوطنية لتعليم الماجري والأطفال غير الملتحقين بالمدارس (National Commission for Almajiri Education and Out-of-School Children = NCAOOSC) بموجب قانون صادر عن البرلمان النيجيري وتحت الإشراف المباشر لوزارة التعليم النيجيري. وتتمثل مهمة اللجنة في إيجاد حلول لقضية الأطفال غير الملتحقين بالمدارس والأمية, وذلك من خلال ضمان حصول كل طفل على تعليم جيد بغض النظر عن خلفيته ووضعه الاجتماعي.

ويجدر بالذكر أنه في المدن الشمالية ظهرت الكثير من المدارس الجديدة والمؤسسات التعليمية الحديثة التي أدخلت في نظامها عناصر مختلفة من التعليم الإسلامي, وذلك لجذب أبناء العائلات التي ترغب في التربية الإسلاميّة. ومع ذلك, يوجد بين العديد من سكان المناطق النائية والأرياف من لا يستطيعون تحمّل تكاليف المدارس الحديثة سواء كانت خاصة أو عامة، كما أن هناك من الآباء من يرفضون ارتياد أطفالهم لمدارس النظام “العلماني” لأنهم يتفادون “التلوث الفكري” وغرس المعتقدات والقيم غير الإسلامية في أذهان أبنائهم. وبالتالي لا يزال الماجيرانسي الحل البديل لهم, مما يجعل النظام مستمرا بشكل أو آخر.

ـــــــــــــــــ

مراجع

حكيم نجم الدين (2020), “قضية المَاجِيرِي في شمال نيجيريا,” الأفارقة للدراسات والاستشارات, عبر https://alafarika.org/ar/4553/ (اطلع عليه في مايو 25, 2024)

John Owen Nwachukwu (2020). “COVID-19: Governors playing politics with Almajiri – Ganduje accuses El-Rufai, others.” Daily Post Nigeria, retrieved from https://shorturl.at/yPbux (Visited on May 25, 2024)

Mashema, B. L., Idria, A. I., & Musa, Y. (2018). “The challenges of almajiri system of education to social peace in Nigeria: a cross-sectional investigation.” Int J Innov Res Adv Stud, 5, 44-50.

Mohammed, I., & Danjuma, Y. (2015). “The Almajiri educational system: Origin, dynamics, and challenges.” Taraba Journal of Political Science, 2, 1-12.

NCAOOSC. “About Us”. Retrieved from https://shorturl.at/XqAfq (Visited on May 25, 2024)

Soonest Nathaniel (2020). “Kano Formally Bans Almajiri System of Education.” Channels TV, retrieved from https://shorturl.at/8rm70 (Visited on May 25, 2024)

Uwaezuoke Okonkwo, U. (2022). “Islam and human dignity: the plights of Almajiri street children during the COVID-19 pandemic in Nigeria.” Cogent Arts & Humanities, 9(1), 2139796.

انشر المقال
بقلم حكيم ألادي نجم الدين رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية. - حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا (IIUM).