تلعب الأفلام السينمائيّة دورًا كبيرًا مهمّا في تشكيل القيم والاتّجاهات، وتثبت هوية المجتمع الذي ينتمي إليه المشاهدون لكونها المرآة التي تنعكس عليها عاداتهم وتقاليدهم. ومن بين هذه الأعمال السينمائية: فيلم “المُحارِب” (Jagun Jagun). وقد أخذ الفيلم تنفيذ الأعمال المثيرة وتصميمات الإنتاج والعروض التمثيلية في صناعة السينما النيجيرية (الشهيرة بـ “نوليوود”)([1]) إلى مستوى جديد تمامًا، مما يغمر المشاهدين في عالم خيالي لا يمكن مغادرته إلا بعد ساعتين وأربع عشرة دقيقة.
وقد أُطلِق الفيلم على منصة نتفليكس “Netflix” للبث المباشر في 10 أغسطس 2023([2]), وفاز بجائزة أفضل فيلم بلغة السكان الأصليين (غرب أفريقيا)، وفئة جائزة أفضل تصميم أزياء في حفل توزيع جوائز “Africa Magic Viewers’ Choice Awards” لعام 2024([3]).
وعليه, تستعرض هذه المقالة الفيلم بتناول شخصياته ومضمونه لكشف قيمته الأدبية والخُلُقِية, إيمانا بأن الفيلم السينمائيّ ليس وسيلة تسليةٍ وترفيه فحسب, بل هو وسيلة توعية وإرساء قيم ومعتقدات, ويمكن استخدامه للتوعية بقضايا سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة تهمّ الرّأيّ العام.
كاتب الفيلم ومخرجه
لقد كتب هذا الفيلم شخصيتان شهيرتان وممثّلان بارزان في السينما النيجيرية؛ وهما “فيمي أديبايو سلامي” (Femi Adebayo Salami, وهو أيضا صاحب الفيلم) و “أديبايو تيجاني” (Adebayo Tijani). كما أنتجه “فيمي أديبايو” مع شركة Euphoria 360 Media, وأخرجه “أديبايو تيجاني” و “توبي أديبايو سلامي” (Tope Adebayo) في عام 2023([4]). وقد مثّل “فيمي أديبايو سلامي” في هذا الفيلم شخصية “Ogundiji”, مما يجعله إحدى الشخصيات الرئيسة في الفيلم التي ينطبق عليها لقب “المحارب” أو “الفارس المغوار” (Jagun Jagun) الذي سُمِّي به الفيلم. بل ومنح تمثيله الفريد هذا العمل السينمائي روعة ورواجا, لكونه – أي “فيمي أديبايو سلامي” – في طليعة نجوم الأفلام اليوروباويّة.
وقد ولد “فيمي أديبايو” في 31 ديسمبر 1978 في ولاية لاغوس، جنوب غرب نيجيريا, ولكن والده الممثل المخضرم “أديبايو سلامي” (الشهير بـ Oga Bello)، ينحدر من مدينة “إلورِنْ” بولاية “كوارا” شمال نيجيريا. وتخرّج “فيمي أديبايو” من “جامعة إلورن” حاصلا على درجة البكالوريوس في القانون, كما حصل لاحقًا على درجة الماجستير في القانون من “جامعة إبادان” العريقة([5]). وقد أنتج الكثير من الأفلام النيجيرية الشهيرة, كما شارك في الأخرى, مثل: “Owo Blow” (عام 1996), “Jelili” (عام 2011), ” “October 1 (عام 2014), “King of Thieves” (عام 2022), “Diamonds in the Sky” (عام 2019), “Mikolo” (عام 2023), وغيرها من الأعمال السينمائية الأخرى([6]).
شخصيات الفيلم الرئيسة
من الشخصيات الرئيسة في فيلم “Jagun Jagun”:
- “Ogundiji” (مثّلها صاحب الفيلم نفسه “فيمي أديبايو سلامي”), وهو مدرّب الشّباب والفتيان على الفروسية والقتال في المعارك بالأسلحة المختلفة مثل الرّماحة والسيوف والهام.
- و “Gbotija” (مثّلها “عبد اللطيف أديديميجي” Lateef Adedimeji), وهو أحد الطلاب المتدرّبين على يدي “Ogundiji” على فنون القتال والمحاربة, وهو يتمتّع بالفروسية الفذّة والجرأة والإقدام في ميدان القتال.
- و ” Jigan” التي مثلها “أودُنْلادي أديكولا” (Odunlade Adekola).
- و ” Gbogunmi” (مثلها “إبراهيم يكيني” Ibrahim Yekini), ويعنى به أنّه يبتلع الحرب بلا مبالاة رغم الغبار المثار في ميدان القتال.
- “Kitan” و “Agemo” اللتين مثلتهما الممثلة الشابة “بوكونمي أولُوَاسينا (Bukunmi Oluwasina) – فهي “Kitan” باعتبارها ابنة لـ ” Ogundiji”, كما أنها “Agemo” باعتبارها ساحرة تستغلّها “Ogundiji” للتغلب على أعدائه في الحرب الضروس.
- و “Wehinwo ” التي مثّلها الممثّل الكوميدي “أديوي أديمي إليشو” (Adeoye Adeyemi Elesho)، إلى جانب شخصيات أخرى.
الظروف الزمكانية التي أخرج فيها الفيلم وحبكته
لقد أُخْرِج فيلم “Jagun Jagun” في بيئة يورباوية خالصة من العصور القديمة, وتحدث جميع الممثّلين فيه باللغة اليوروباوية القحّة, واستعملوا مجازات واستعارات عززت أصالة المخرجين اليوروبوية وتبحّرهم الثقافي والتاريخي. وبرزت فيه الهويّة اليوروباوية وعاداتها وتقاليدها, كما احتوى على أساطير ومعتقدات أرواحية مخالفة للأديان السماوية, وخاصة الإسلام. ومما يؤكد أن الفيلم استهلك مبالغ مالية ضخمة حسب ما أقرّه صاحب الفيلم؛ أنه تم دمج التكنولوجيا السينمائية ما بعد الحداثة مع تصوير ثقافة اليوروبا التقليدية فيه, كما أحكم المخرج التوصيف والإعداد والحبكة لتناسب جميع شخصيات الفيلم.
ويمكن إيجاز حبكة فيلم “Jagun Jagun” في أنه يحكي قصة “Ogundiji”, أمير الحرب وصاحب معسكر تدريب المحاربين، الذي كان يستخدم قواته الحربية في انتزاع ممالك كثيرة لملوك آخرين دكتاتوريين الذين في المقابل يمولونه ويدفعون له بسخاء. ولكن الوضع تغيّر فور وصول المحارب الشاب “Gbotija” إلى مدرسته للتدريب والانتقام لمقتل والده. وبعد العديد من الدورات التدريبية الحربية تم إرسال “Gbotija” ضمن محاربي “Ogundiji” للقتال في الحرب, وساءت الأمور في ساحة المعركة لأنه من المحاربين الشباب عديمي الخبرة, فغضب “Ogundiji” من قرار قادة المجموعة بالاختباء أثناء الحرب، وأرسل القاتلة الشبحية أو الساحرة “Agemo” لمساعدة المحاربين وقلب معادلة الحرب لصالحه.
إن اختباء قادة المجموعة الحربية أثناء الحرب بمثابة خذلان لـ “Ogundiji”, فأمر بمعاقبتهم بحرمانهم من الطعام والحرية؛ ولكن متدربا حربيا آخر “Wehinwo” خالف هذا الأمر وقدّم الطعام للمُعاقَبين المسجونين، وهذه الخطوة منه أدت إلى أمر “Ogundiji” بمقتله. ووصلت أخبار مقتل “Wehinwo” إلى قريته، مما أثارت حفيظة خطيبته التي تشاورت مع الكاهن حول قتل زوجة “Ogundiji” (مثّلتْها الممثلة “فاتحة بالوغُنْ” Fathia Balogun), ولكن “Gbotija” أنقذها من القتل، فأكسب بذلك لنفسه الاحترام بين متدربي المعسكر المحاربين الآخرين, كما أن شعبيته وصلت إلى آذان “Ogundiji”، الذي بدأ يشعر بالغيرة والتهديد من إمكاناته فيقرر التخلّص منه, بدءا من اقتراحه أن يقاتل “Gbotija” حتى الموت مع ضابط رفيع المستوى “Gbogunmi”, بعد رفضه أمر “Ogundiji”. فقاتل المحاربان بعضهما البعض لاحقًا وفاز “Gbotija” فوزًا مريرًا, مما يعني فشل خطة التخلص منه. وقد لجأ “Ogundiji” إلى خطة أخرى تمثّلت في وعد “Gbotija” بالترقية، شريطة مواجهته العديد من التحديات. ولكن “Gbotija” أدرك في التحدي الأخير أن أن سيده “Ogundiji” يخدعه فقط, وهو ما أدى إلى مواجهة بينهما، حيث يمكن أن يخرج أحدهما فقط حيًّا.
القيم الأدبيّة والخلقية في الفيلم
يحتوى الفيلم على قيم أدبيّة كثيرة ودروس أخلاقية عديدة يُلاحظها المشاهد حسب عمقه الفكري والأدبي والفلسفي. ويمكن حصر بعض القيم التي تمت ملاحظتها في التالي:
- تحدّث الممثّلون في الفيلم باللغة اليوروباوية القحّة الخالصة دون أن تشوبها شوائب اللُكن التي تقدح أصالة اللغة في ألسنتهم. وهذا يكشف أن جميع الأطراف المشاركة في الفيلم قد أمضوا وقتا لدراسة يوروبا لغة وثفافة وتاريخا, كما يطمئن على أن للغة اليوروباوية مستقبلا باهرا لتمكنها من البقاء على مرّ العصور جودة وروعة.
- تكثيف الممثلين في استعمال الأساليب التي تزيد اللغة رونقا وطلاوة من ناحية الجمال الفنيّ، وهو من الانعكاسات الإيجابية التي ظهرت في هذا الفيلم.
- تتراقص لغة اليوروبا برشاقة عبر الحوارات، مما يزيد من أصالة السرد. ويضيف أداء الممثلين المليء بالمجازات والكنايات والاستعارات والأمثال اليوروباوية، طبقة من الواقعية إلى شخصياتهم. هذا إلى جانب نوعية الموسيقى والصوت المنسقين بدقة لكل مشهد، مما يهيج المشاعر ويجذب الجمهور بشكل أعمق إلى نسيج القصة.
- ومن ناحية الأخلاق, يؤكد الفيلم على أهمية التعاون بدلاً من المنافسة, وأن الأفضل تسخير المواهب والإمكانات التحويلية كحلفاء لتحقيق مصالح مشتركة.
- أظهر الفيلم ضرورة الاعتراف بحكمة الشباب وقدراتهم المحتملة أمام صدّ أدوات التدمير المتمثلة في أفعال أفراد أقوياء لا يعرفون سوى مصالحهم الخاصة. ودعا الفيلم ضمنيا العقول الشابة لإدراك قيمتها وممارسة تأثيرها بحكمة، والابتعاد عن كونها بيادق في لعبة شخص آخر.
- يلاحظ من الفيلم أهمية الوقوف مع الخير, حيث يشير إلى أنه مهما طال ثبات شخص ما وحيدا في طريق الحقيقة، سينجذب إليه الآخرون حتمًا، مما يخلق منارة للتغيير والتحول المأمول في المجتمع.
- يُظهر الفيلم تداعيات الخيانة وقدرته على تحويل المودة إلى عداوة, والثقة إلى استياء. وبعبارة أخرى: يذكر الفيلم بالاعتزاز والتمسك بروابط الحب والولاء للأهداف الإيجابية.
- من خلال تجارب الشخصيات المختلفة في الفيلم تُلاحظ أهمية تحقيق التوازن الدقيق في جميع الأمور, حتى عند مساعدة الآخرين. فالفيلم يشجّع على فعل الخير ومد يد العون، ولكنه أيضا يؤكد على أهمية الفطنة حتى لا يعرض الإيثار للتلاعب أو الأذى.
- لكل الأشياء نهايتها، مهما كبرت أو زادت قوتها. ولذلك يحذر الفيلم من سكران القوة وغرور المنصب, ويدعو إلى التواضع (يُلاحَظ هذه النقطة في وفاة المحارب العظيم “Ogundiji” رغم قوته).
- لا يمكن تحقيق أي شيء بمجرد النية. والنية قوة إبداعية قوية إذا كانت برغبة هادفة وأفعال كافية وكثافة عاطفية (تُلاحَظ هذه النقطة في انتقام المتدرب “Gbotija” لقريته ورغبته الشديدة في أن يكون محاربًا عظيمًا).
- التسلسل الهرمي قديم قدم الحياة, واستخدام الأغنياء أو بعض الزعماء للفقراء لتحقيق أهوائهم ومصالحهم عادة قديمة, وعندما يثور الفقراء ضد القادة والأغنياء سيكتشفون أن الخائنين الحقيقيين هم من يثقون فيهم ويعتمدون عليهم (يلاحظ هذا في الملوك الذين يختبئون خلف حماية “Ogundiji” لاستخدام محاربيه لصالحهم).
- للكلمات قواتها والمرء بحاجة إلى التحدّث في تخصصاته و والتحرك في المواقف التي تعنيه بقناعة وجرأة وسلطة (جميع الرجال الأقوياء في الفيلم يتحدثون دائمًا ويتحركون نحو شيئ معيّن).
- كشف الفيلم أن الخلفية البسيطة للمرء وظروفه القاسية قد تكون ميزة له إذا أحسن استغلالها (يلاحظ هذا في خلفية “Gbotija”, ابن نحات الخشب، وظروف مقتل عائلته في سن مبكرة).
- لكل فعل جزاؤه، ولن يُفلِت أحد من تلقّي جزائه, إن خيرا فخير وإن شرا فشرّ (يلاحظ هذا في نهاية “Ogundiji” المحارب العظيم).
خاتمة
من خلال فيلم “Jagun Jagun” يمكن القول إن صناعة السينما النيجيرية (الشهيرة بـ “نوليوود”) تتطور يوما بعد يوم، وأن الفيلم يمثّل تجربة سينمائية ذات جودة أفضل مع قصة بسيطة ذات حبكة رائعة تُميّزها أصالة اللغة اليوروباويّة الفصحى. ورغم ما يشهده الفيلم من انتقادات بعض المسلمين حول ما وردت فيها من المعتقدات “التقليدية” اليوروباوية, وما يواجهه الفيلم من تساؤلات حول مهام بعض شخصياته؛ إلا أنه يعزز اللغة اليوروباوية من الناحية الأدبية, ويعطي دروسا كثيرة عن الحياة, الأمر الذي يجعل نقّاد الأفلام النيجيرية يعتبرون الفيلم سابقة لما يجب على منتجي “نوليوود” مراعاته في أعمالهم السينمائية الملحمية.
ــــــــــــــــــ
[1] – حكيم ألادي نجم الدين (2024). “نوليوود: تاريخ صناعة السينما النيجيرية وتطوّرها.” نيجيريا الثقافية, عبر الرابط https://tinyurl.com/yedjp2bx
[2] – “Jagun Jagun: The Warrior”. Netflix, retrieved from https://tinyurl.com/5nf54cca
[3] – TVC News (2024). “AMVCA: Femi Adebayo’s Jagun Jagun wins best indigenous film award.” Retrieved from https://tinyurl.com/8yfcfhnp
[4] – Faith Oloruntoyin (2024). “Here is your first look at Netflix’s ‘Jagun Jagun’.” Pulse.ng, retrieved from https://tinyurl.com/47b6rv6t
[5] – “Femi Adebayo.” My Nigeria, retrieved from https://tinyurl.com/yc2u5p7n
[6] – “Femi Adebayo.” IMDB, retrieved from https://tinyurl.com/ycyw2u3e