ستيف بيكو .. الفيلسوف و “أب الوعي الأسود”

حكيم ألادي نجم الدين
حكيم ألادي نجم الدين - رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.

يرتبط اسم “ستيف بيكو” بشكل وثيق بـ “الوعي الأسود“, كما يفضل الإعلام وصفه بـ “الناشط” رغم أن الدراسات والبحوث والتقارير التي تناولت حياته وأفكاره عن مقاومة الظلم والقمع و”تحرير السود” تؤكد على أنه لم يكن مجرّد ناشط, بل كان فيلسوفا مدركا ببيئته ومتجذرا في الإنسانية الأفريقية.

وقد جُمِعت مجموعة من كتاباته في كتاب “أكتب ما أحب” (I Write What I Like) والذي نُشر للمرة الأولى في عام 1978 وأصبح من الأعمال الرئيسية على مستوى العالم عن “تحرير السود”. وفي رأي “لويس جوردون”: الكتاب “عمل كلاسيكي في الفكر السياسي الأسود ونضال التحرر للبشرية جمعاء” (ص 7, أكتب ما أحبّ). بيما وُصِف “بيكو” من قبل “ديزموند توتو” كـ “أب الوعي الأسود”، مضيفا أن حركة “الوعي الأسود” كان “بالتأكيد من الله”.

وُلد “بانتو “ستيفن بيكو”  (Bantu Stephen Biko)في “تيلدين”  (Tylden)بمنطقة كيب الشرقية، في 18 ديسمبر عام 1946، وكان – رغم مواهبه الأكاديمية – ضد السياسات التي تهدف إلى إعاقة تعليم “السود”. ومن هنا بدأتْ تساؤلاته حول نظام الأبارتيد والظروف القاسية التي يمر عليها بنو بشرته غصبًا عنهم.

وبسبب تمرده، استُجْوِب “بيكو” من قبل الشرطة و فُصل من المدرسة، ما أتاح له ما وصفه “بيكو” بـ “الاستياء الشديد تجاه سلطة البيض”. فانخرط في السلك النضالي لمكافحة الأحوال التي يواجهها “السود”، كما استقال لاحقا من كلية الطب.

وكطالبٍ جامعيّ, أسّس “بيكو” في عام 1969 منظمة “طلاب جنوب أفريقيا” الهادفة إلى ضرورة تحرير “السود” لأنفسهم والاعتماد على ذاتهم من أجل تغيير جذري لجنوب أفريقيا. وكان تأسيس المنظمة إيذانا ببدء “حركة الوعي الأسود” (Black Consciousness Movement ) الحركة التي أعادت تنشيط وإشعال مقاومة الفصل العنصري في السبعينات, وظهر بسببها عدة منظمات تنموية وسياسية ومجتمعية.

حركة الوعي الأسود

سعى “الوعي الأسود” إلى توحيد الأفراد والجهود لمقاومة السبب الجذري لاستعبادهم تحت نظام الأبارتايد. وفي سبيل ذلك قدّم “بيكو” أفكارا ونظريات واقعية, بما في ذلك مفهوم “اللاهوت الأسود” الذي قصد به ضرورة نقل رسالة المسيحية من منظور المظلومين من أجل مطابقة مسار الإدراك الذاتي لـ “السود”؛ إذ يرى “بيكو” أن “اللاهوت الأسود” يجب أن يعتبر السماح لنفسه بالاضطهاد خطيئة. وبالتالي يمكن لـ “السود” القضاء على الفقر الروحي من خلال تكييف المسيحية مع القيم الإفريقية وأنظمة المعتقدات.

وقد لخّص “بيكو” فكرة “حركة الوعي الأسود” في قوله:

“إن الخطوة الأولى … هي جعل الرجل الأسود واعيا لنفسه، لإعادة ضخ الحياة في قوقعته الفارغة، لسكبه بالعزة والكرامة، لتذكيره بتواطئه في جريمة السماح لأن يُساء استخدامه, وبالتالي السماح لارتفاع نفوذ الشرّ في البلد الذي وُلد فيه … وهذا هو تعريف الوعي الأسود.”

وعن حياته الشخصية، التقى “بيكو” بزوجته “انتسيكي ماشالابا” (Nontsikelelo ” Ntsiki ” Mashalaba) ، وتزوجا في ديسمبر عام 1970 بمدينة الملك “ويليام” في محكمة القضاة, وعقدوا الاحتفال في منزل والدته. وكانت ولادة ابنهما الأول انكوسينثي (Nkosinathi) في عام 1971.

في عام 1972 أسس “بيكو” “مؤتمر الشعب الأسود” (Black People’s Convention) كمنظمة جامعة لـ “حركة الوعي الأسود” ولتحقيق الحركة التي بدأت تجتاح الجامعات في جميع أنحاء جنوب إفريقيا. وفي عام 1973 فرضت الحكومة على “بيكو” حظر التنقّل والتجوال إلي كل مناطق البلاد – باستثناء منطقة منزله مدينة الملك “ويليام” في كيب الشرقية, وقيدوا حريته من التحدّث إلى أكثر من شخصٍ فقط في محاولة لصدّ أنشطته وقمع الحركة السياسية الصاعدة. غير أنّ “بيكو” – ورغم كل القيود – واصل نشاطه السياسي كشخصية رئيسية في “حركة الوعي الأسود”, وساعد في تنفيذ مختلف المشاريع المجتمعية أثناء الفترة.

اعتقاله واغتياله

في يوم 18 من أغسطس عام 1977 ، اختطفت الشرطة “ستيف بيكو”, و احتجزته بموجب المادة 6 من قانون “مكافحة الإرهاب” – القانون الذي أفقد العديد من “السود” حريتهم في جنوب أفريقيا منذ عام 1950. ومكث “بيكو” في السجن أربع و عشرين يوما وهو يتعرّض للتجويع والضرب المبرح بدعوى الاستجوب.

ومع كل الإصابات البالغة, فقد رفضت الأطباء تشخيص “بيكو” وتسجيل حالته الصحية الخطرة كي يبقوه في البيئة اللاإنسانية الشرطة, وجرّدوه عريانا بلا ثوب وهو مغمى عليه. وفي النهاية نقلوه إلى “بريتوريا” (740 ميلا من مكان الاحتجاز) ليتلقي العلاج.

وتوفي “ستيف بيكو” في 12 سبتمبر عام 1977، وأصبح الشخص الواحد والأربعين (41) في جنوب أفريقيا الذي قُتل أثناء الاحتجاز في معتقل الشرطة. لكنّ حكومة الأبارتيد أعلنت براءتها من مقتله واحتجّتْ بأن الوفاة نجمت عن إضراب “بيكو” عن الطعام. بل ونُقل من وزير الشرطة حينها “جيمي كروغر” ، قوله: ” أنا لست سعيدا ولا أنا آسفٌ. فموت بيكو يشعرني بالبرد”.

وإذ أكّد التشريح الرسمي لجثة “بيكو” على أنه توفي بسبب جرح في الدماغ نتيجة “استخدام القوة في الرأس”, فقد برّأت محكمة في جنوب أفريقيا الضباط المسؤولين عن مقتل “بيكو” من أي ذنب أو لومٍ.

صحيح أن مقتل “بيكو” المأساوي ترك تأثيرا عظيما في الجنوب أفريقيين “السود” والمتعاطفين مع قضيته في جميع أنجاء العالم, وقدّر عدد الذين حضروا جنازته بأكثر من 15,000 مشيع، باستثناء الآلاف الذين أبعدتهم الشرطة من الحضور. إلا أن الإرث الذي تركه “ستيف بيكو” ونضاله الذي أفنى حياته من أجله ساهم في تسريع عملية التحرير والاستقلال والحريات التي يعشيها شعب جنوب أفريقيا اليوم.

تراثه وعلاقته مع “مانديلا”

تعرّضت حكومة “حزب المؤتمر الوطني الأفريقي” لانتقادات ترى أنها تتبنّي الفضل في تاريخ النضال بجنوب أفريقيا وحدها وأنها تهمل شخصيات رمزية شاركوا فيها – رغم أن بعض هذه الشخصيات دفعت الثمن الغالي بحياتها, مثل “ستيف بيكو”. وهذه الانتقادات أجبرت حكومة الحزب في عام 2012 على إنشاء “مركز تراث ستيف بيكو” في منطقة الملك “ويليام”.

وقد أثار البعض تساؤلات عن عدم ذكر “مانديلا” في كتابه عن مسيرته نحو الحرية عن “ستيف بيكو”, ولعلّ السبب يعود إلى كون “بيكو” في سنّ 15 من عمره عندما قُبض على “مانديلا” وسُجّن في جزيرة “روبن”. كما أن مقتل “بيكو” كان في عام 1977، بمعنى أنه لم يطلق سراح “مانديلا” إلا بعد 12 سنة من مقتل “بيكو”.

وبالتالي, لم يعرفا بعضهما بعضا – حتى وإن كان “نيلسون مانديلا” تحدّث مرارا عن إعجابه بـ”ستيف بيكو”، وبل وكان “بيكو” رمزا رئيسيا في حملة “مانديلا” للانتخابات الرئاسية بعد خروجه من السجن.

ويوجد شبه اتفاق بين منظّري الأبارتيد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا على أنّ خروج “نيلسون مانديلا” وغيره من السجن وانتصار الجنوب-أفريقيين على نظام الأبارتيد كان امتدادا لجهود أمثال “ستيف بيكو” الذين ضحّوا بحياتهم عندما كان “مانديلا” وزملاؤه سجناء. ولذلك قال “مانديلا” عن “بيكو” : “كان عليهم – أي حكام الأبارتيد – قتله لإطالة فترة الأبارتيد”.

ويمكن القول أيضا إنّ أفكار الرجلين تلتقي في قضية إنهاء نظام الأبارتيد وتحقيق العدالة المدنية والمساواة القانونية للمواطنين “السود” بجنوب أفريقيا, وأنهما أدركا أن باستطاعتهما تحقيق أهداف الثورة الاجتماعية التي يقودانها دون اللجوء إلى العنف – لكنهما على استعداد للقتال إذا تطلب الأمر ذلك.

وإذ كان لـ “المؤتمر الوطني الأفريقي” – الذي ينتمي إليه “مانديلا” – طائفة مسلحة, فقد كان الحزب يؤمن بأن ممارسة ضغط شعبي سيؤثر على حكومة جنوب أفريقيا, وسيجبرها على إطلاق سراح “مانديلا”، وبخروجه ستتحقق مطالب بقية الثورة.

أما “ستيف بيكو”, فهو يرى أن كل ما هو مطلوب هو رفع الوعي بالهوية الأفريقية وثقافة “السود”، لمنحهم الاعتزاز والشعور بالمساواة داخل أنفسهم. كما يؤمن بأن تعليم “السود” قيمتَهم كبشر سيساهم في معارضتهم ومقاومتهم للذين يحكمونهم ظلما, وسيؤدي لا محالة إلى ثورة واسعة النطاق لا يمكن إيقافها.
وفي حدّ تعبير “بيكو”:

“إن السود سئموا من الوقوف على خطوط الالتماس لمشاهدة مباراة ينبغي عليهم لعبها. إنهم يريدون أن يفعلوا الأشياء لأنفسهم.” (رسالة إلى رؤساء مجلس النواب الطلاب، من كتابه “أكتب ما أحب” ، 1978)

وقد لخّص “بيكو” مسيرته في مقولته الشهيرة: “أقوى سلاح في يد القاهرين هو عقل (وعي) المقهورين”. وعليه لم يكن “بيكو” فقط رمزا ومناضلا بارزا ضد حكم الأبارتيد، بل كان الضحية الأكثر شهرة في جميع أفريقيا – حتى وإن لم يكن عضوا في أقدم حركة التحرر الجنوب أفريقية – “المؤتمر الوطني الأفريقي”.

انشر المقال
بقلم حكيم ألادي نجم الدين رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية. - حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا (IIUM).