المناصب التقليدية في نيجيريا

حكيم ألادي نجم الدين
حكيم ألادي نجم الدين - رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.

تكونت أقاليم الغرب والشرق والشمال في نيجيريا من أكثر من 300 إثنية عرقية، ولكل هذه الإثنيات المختلفة مجتمعاتها المستقلَّة (الإمبراطوريات والممالك والسلطنة) قبل مجيء الكولونيالية البريطانية ودَمْج جميعها مع بعضها لتشكيل ما يُعْرَف اليوم بنيجيريا. ومن هذه المجتمعات والممالك استمدَّ الحُكَّام التقليديون في نيجيريا (الملوك في الجنوب والشرق، والسلطان/الأمراء في الشمال) ألقابهم.
ولذا تركَّزت الإدارة المحلية بشكلٍ عامّ على يد الحاكم التقليدي (الملك /السلطان/ الأمير أو مناديبهم) لعدَّة قرون قبل ظهور الحكم البريطاني؛ حيث كان الحاكم التقليدي بمثابة مستودَع للوظائف الدينية والتشريعية والتنفيذية والقضائية في مجتمعه المحليّ، مع بعض الاستثناءات الوظيفية في مجتمعات شرق نيجيريا.

على أن ملحمة عزل “سانوسي لاميدو سانوسي” (محمد سانوسي الثاني) – أمير إمارة كانو الرابع عشر؛ تُعِيد إلى الأذهان تلك النقاشات الطويلة حول مكانة الحكّام التقليديين في دولة نيجيريا بعد الاستقلال، وكيف تغيَّر دورهم في إدارة الحكومة المحلية على مرّ السنين؛ من كونهم الرؤساء التنفيذيين لمواقعهم الجغرافية (مجتمعاتهم المحلية)، إلى تخفيض مناصبهم كمجرّد مستشارين وموظفين تحت نظام الحكم المحلي المعاصر (local government system)، الأمر الذي يخلق صدامًا ومشكلات بين الحُكَّام التقليديين والجهات الفاعلة في الحكومة المحليَّة المُنْتَخَبَة، ويُعَقِّد العلاقة بين هؤلاء الحكام التقليديين وحكام الولايات الحديثة (state governors) التي توجد تحتها هذه المجتمعات المحلية.

دور الحُكَّام التقليديّين في نيجيريا قبل الكولونيالية

كانت طبيعة الوظائف، ومدى أهمية المناصب التقليدية في الدولة الحديثة موضع نقاش ساخن بين فريقين من الباحثين في العلوم السياسية والفلسفة الإفريقية؛ فريق يؤيد بقاء المؤسسات الإفريقية التقليدية لأهميتها في الحفاظ على الثقافة والنسيج الاجتماعي المحليّ بإفريقيا ولدورها في تصفية استعمار العقل الإفريقي. وفريق يرى أن المؤسسات التقليدية تُكلّف أنظمة الحكومات الحديثة موارد باهظة، وتُشَكِّل عوائق أمام التنمية وعمليَّات التحديث في إفريقيا بالنظر إلى نمط تفكير هذه المؤسسات التقليدية وسلوكها.

الملك “أدي آينيتان أوغونووسي” الذي يحكم مملكة يوروباوية في “إيلي إيف” النيجيرية. المصدر: @oaucruise Read

ووفقًا لدراسة للبروفيسور Osa Osemwota والدكتور Daniel Adetoritse Tonwe، المؤرخين السياسيين في جامعة “بنين” النيجيرية؛ فقد اهتمّت الكولونيالية البريطانية بالمناصب التقليدية بنيجيريا حتى قبيل الاستقلال، وشهد الحكام التقليديون من عام 1960م حتى عام 1999م تراجعًا في الأدوار حسب الوظائف التي يُرَاد منهم القيام بها في الحكومات المحلية بمختلف الأقاليم الثلاثة –الشمال والغرب (جنوب غرب نيجيريا حاليًا)، والشرق (جنوب شرق نيجيريا حاليًا).

ففي حقبة ما قبل الكولونيالية، تمثلت طبيعة حكم الحكام التقليديين -من بين أمور أخرى- في صياغة سياسات مناسبة، وترتيب الأولويات، وتوليد الإيرادات لتلبية احتياجات مجتمعاتهم؛ فالأمير في الشمال مُشَارِك تنفيذيّ قَوِيّ في الإدارة المحلية دون قيودٍ كبيرة على سلطاته التنفيذية.

وفي الغرب تمركزت السلطة على أيدي “أوبا” (أو الملك) الذي شارك نفوذه مع كُتل أو مراكز سلطة أخرى؛ مثل: هيئة صانعي الملوك، ومجلس البلدة، والجمعيات السرية القوية التي كان دورها في تشكيل الإدارة المحلية بمثابة مراقبة سلطة الملك. وفي الشرق رغم أهميّة منصب الملك، فإن نظام الحكم لامركزيٌّ للغاية ومُجزّأٌ بحيث تُمَارَس السلطة على مستويات مختلفة، ممَّا يعني أنَّ منصب الحاكم التقليدي في الشرق تجسيدٌ فقط للإدارة المحلية.

الحكام التقليديون في حقبة الكولونيالية

ومع ظهور الكولونيالية؛ لجأ الإداريّون البريطانيون -الذين أدركوا الموقف الاستراتيجي والمؤثر الذي يشغله الحُكَّام التقليديون في البلاد- إلى طريقة أخرى لاستغلال المناصب التقليدية لتحقيق مصالحهم الكولونيالية؛ فوضعوا نظام “الحكم غير المباشر” لحكم السكان المحليين، والتحكم في مواردهم؛ عبر مؤسساتهم التقليدية مع إحكام الكولونياليين البريطانيين عملية توجيه الحكام التقليديين. ومن خلال هذه الطريقة أيضًا عزّزت بريطانيا دور هؤلاء الحُكَّام كرؤساء تنفيذيين لمحلياتهم، وللمناطق التي لم تصل إليها سلطتهم قبل حقبة الكولونيالية.

على أن نظام “الحكم غير المباشر”، ونظام السلطة التقليدية أدخلا الحُكَّام التقليديين في مواجهة مع “القوميين” الذين شكوا من أن الحكام التقليديين يسيطرون بقوة على مجالسهم المحلية وأنهم يميلون إلى الاستبداد في أداء وظائفهم التي كانت في الأساس للحفاظ على القانون والنظام، إضافةً إلى أنهم موظفون لدى الإدارة الاستعمارية، لتنفيذ السياسات الضريبية البريطانية؛ فأدت هذه الشكاوى والمواجهات إلى ظهور الأحزاب السياسية في نيجيريا في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين؛ حيث القوميون سعوا إلى المشاركة والتمثيل في الشؤون الحكومية دون ترك هدفهم الأساسي المتمثّل في الضغط من أجل الحكم الذاتي.

الملك “أغبوغيدي أوبي جيمس إيكيتشكوو أنياسي” الثاني, الذي حكم “إدوموجي أونر” (في ولاية دلتا – جنوب نيجيريا) وكان أطول ملوك في أفريقيا حكما لمدة 66 عاما حتى وفاته عام 2013.
المصدر: George Osodi/George Osodi c/o Z Photographic Ltd

وبالفعل نجح “القوميون” في محاولاتهم؛ إذ عدّلت بريطانيا استراتيجيتها إلى نظام جديد (حكومة محلية) كان الهدف منه -وفق تقرير مقدم للبرلمان البريطاني في يوليو 1949م-: تشجيع المصالح السياسية المحلية، وبناء حكومة محلية تتسم بـالكفاءة والديمقراطية؛ فألغت منطقة الشرق نظام السلطة التقليدية، واستبدلته بمرسوم الحكم المحلي لعام 1950م الذي نصّ على انتخاب المجالس، وعدم تجاوز الأعضاء غير المنتخبين 25%، واختيار رؤساء المجالس من بين أعضاء المجالس المنتخبين.

وصدر في المنطقة الغربية قانون الحكم المحلي لعام 1952م ليحلّ محل نظام السلطة التقليدية القديم. ونص القانون على أن تتألف المجالس المحلية مِن الأعضاء المنتخبين والتقليديين؛ بحيث لا تتجاوز العضوية التقليدية ربع مجموع عضوية المجالس، كما يمكن تعيين الزعماء المعترف بهم (مثل الحكام التقليديين) رئيسًا للمجالس، بشرط ألا يُعْطَوا أيّ دَوْر مُحَدَّد، ممَّا يعني أنهم فقط رؤساء شرفيون.
وفي المنطقة الشمالية؛ استُبْدِلَ قانون السلطة التقليدية القديم بقانون آخر لعام 1954م والذي نصَّ على عددٍ من الأُطُر التشغيلية -بما في ذلك “الرئيس في المجلس” (Chief-in-Council) و “الرئيس مع المجلس” (Chief–and-Council)، والسلطات التقليدية الموحدة؛ ففي ترتيب الرئيس في المجلس، يملك الأمير سلطة الاعتراض على قرارات المجلس؛ شريطة إبلاغ المُحافِظ (Governor) إذا فعل ذلك.
وفي ترتيب الرئيس مع المجلس، لا يمكن للأمير مخالفة قرار المجلس. وقد أدى تداخل ثقافة المنطقة الشمالية مع الثقافة الإسلامية وممارسات السلطة السياسية التقليدية إلى صعوبة تمييز أيّ اختلاف في سلطة الأمراء بين ترتيبَي الرئيس في المجلسين. وتتمثّل مهمة السلطات المحلية الموحدة في تلبية احتياجات المجتمعات التي لا تخضع مباشرة للإمارات.

الحكام التقليديون بعد الاستقلال

ورغم فقدان السلطات التقليدية دورها التنفيذي في نظام الحكومة المحلية، فقد تمكّن بعض الحكام التقليديين وخاصة في الشمال من المشاركة بشكل كبير في عملية صنع القرار والحكم؛ كلٌّ حسب تأثيره الفردي، وأهمية منصبه التقليديّ في أعين الفاعلين السياسيين. وفي المناطق الشرقية والغربية كان استيلاء الجيش على السلطة عبر الانقلابات العسكرية من عام 1960م إلى عام 1999م وجهود نشر الديمقراطية بعدها قد أثّرا بشكلٍ سلبيّ في مكانة الحكام التقليديين وأهميتهم في صنع القرار المحلي.

بل تعرَّض دستور عام 1979م لكثير من الانتقادات مِن قِبَل الحُكَّام التقليديين الذين قالوا: إنه لم يَذْكُر دورهم في الحكومة المحلية. واستجابة لطلبهم، حدّد دستور 1989م وظائف المجلس التقليدي على مستوى الحكومة المحلية. ويرى النُقّاد أيضًا أن دستور 1999م لم يُعزِّز دور الحكام التقليديين في شؤون الحكومة المحلية؛ لأنه لم يُحدّد وظائف السلطات التقليدية. وما زالت المحاولات جارية في برلمان نيجيريا لتحديد وظائف الحُكّام التقليديين وأدوارهم في الحكومات المحلية التي تقع بدورها تحت سلطة حكومة الولايات النيجيرية.
وعلى الوضع الراهن؛ كان الحُكام التقليديون تحت رحمة المسؤولين المنتخبين (رؤساء الحكومات المحلية وحُكام الولايات)؛ حيث يوجد أمامهم أمران: تأمين الاستمرار في المنصب التقليدي من خلال الإذعان لأوامر المسؤولين السياسيين المنتخبين، واللعب على أوتارهم لتفادي أيّ صدام معهم، أو التعرض للإطاحة والابتزاز في حالِ انتقاد هؤلاء المسؤولين والخروج ضدهم ولو لقضية عادلة.

ويكفي كمثال على ما سبق: ملحمةُ عزل الحاج “سانوسي لاميدو سانوسي” -أمير إمارة “كانو” التاريخية وأحد الزعماء التقليديين ذوي النفوذ في شمال نيجيريا– من عرش الإمارة في 9 من مارس 2020م ونفيّه دون إرادته إلى قرية في ولاية “ناساراوا”, وذلك بأمر من “عبد الله غندوجي” – حاكم ولاية كانو بشمال نيجيريا. وهذا التطوّر ذكّرني بالمثل اليوروبوي القائل:”Ilésanmí dùn joyè lọ”  – أي عيشك في منزلك البسيط بسلامٍ وأمنٍ وحريّة خيرٌ لك من الحصول على ألقاب مُرهقة ومناصب مُزعجة.

ـــــــــــــ

ملاحظات:

– نشر الباحث (حكيم نجم الدين) نسخة طويلة من هذا المقال في دورية قراءات إفريقية بعنوان “المناصب التقليدية في نيجيريا، وقضية عزل أمير كانو “محمد سانوسي” الثاني“.

– هناك دراسة أخرى منشورة للباحث ومرتبطة بالموضوع:

حكيم ألادي نجم الدين (2020)، “الحكام التقليديون ودورهم في الحياة الاجتماعية المعاصرة في غرب إفريقيا”. قراءات إفريقية، العدد 45، ص 83.

انشر المقال
بقلم حكيم ألادي نجم الدين رئيس تحرير مجلة نيجيريا الثقافية.
- باحث نيجيري مهتم بالتحولات السياسية والقضايا الاجتماعية والتنموية والتعليمية. - حاصل على دكتوراه في الأصول الاجتماعية والقيادة التعليمية من الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا (IIUM).