“نغوغي وا ثيونغو”: أهمية اللغة الأم ودور المثقف الأفريقي في “فترة ما بعد الاستعمار”

آدم يوسف أموبولاجي
آدم يوسف أموبولاجي - نائب مدير التحرير والمدقق اللغوي.

إن الشخص الأفريقي امتداد للثقافة الأفريقية التي تتجلى فيها ملامحه، وتتمثل فيما حوله، وتعكس طبعيته ومزاجه، وتصور عقليته وتفكيره، وتنبئ عن مدى قدرته في التكيف مع الأمور، وسعيه الحثيث في تكوين شخصيته المستقلة التي تنم عن بصيرة ومعرفة ووعي مستندا على ثقافة قومه، وذلك من أجل التحرر من ربقة الاستعباد، والتخلص من أسر التقليد.

والأدباء الأفارقة يمثلون جزء من هذه الحركات، ويشكلون عصابة تعبر عن الثقافة الأفريقية، ويخوضون معارك فكرية وعقلية دفاعا عن حق الشخص الأفريقي المهضوم، ويحاولون قدر الإمكان الكشف عن قناعه أو إعادة رسم هياكله المشوهة من قبل المتطرفين. ومن بين هؤلاء الأدباء البروفيسور الكيني “نغوغي وا ثيونغو” (Ngũgĩ wa Thiong’o).

“نغوغي وا ثيونغو” وإسهاماته الأدبية

يعد “نغوغي وا ثيونغو” من كبار كُتاب أفريقيا المعاصرين وأحد أعظم كُتاب القرن العشرين. وقد وُلِد باسم “جيمس نغوغي” في 5 يناير 1938م ونشأت في قرية “كاميريثو” – وهي واحدة من القرى الاستعمارية التي أُشئت خلال التدافع على “المرتفعات البيضاء” في كينيا في أوائل القرن العشرين.

وكغيره من الروائيين الأفارقة المعاصرين، تتسم أعماله بنكهة سياسية: فهو  يصور الانتقال المؤلم من الثقافة المستعمرة إلى مجتمع أفريقي مستقل. وتناولت كتاباته استراتيجيات الاستعمار والعلاقة المعقدة بينها والمجتمعات المستعمَرة والبحث عن سبل تطوير الاقتصاد المحلي والتحرر الثقافي ونقد النخبة الإفريقية التي تعمل كعملاء للمستعمرين الجدد.

وقد صوّر “نغوغي” رؤيته في نهضة وطنه كينيا في “الناسك الأسود” (The Black Hermit) – والتي كانت أيضا أول مسرحية منشورة باللغة الإنجليزية في منطقة شرق إفريقيا.

وطغت خيبة أمل “نغوغي” جراء تطلعاته في ثلاثيته الأولى: “لا تبك أيها الطفل” (Weep Not, Child) المنشورة في مايو 1964م؛ و “النهر الفاصل” (The River Between) المنشورة في عام 1965م وتدور حول انتفاضة “ماو ماو” والرومانسية غير السعيدة بين المسيحيين وغيرهم؛ و “حبة قمح” (A Grain of Wheat) التي صدرت عام 1967م واتضح فيها احتضانه لـ “الماركسية الفانونية” (نسبة إلى الطبيب والفيلسوف “فرانز فانون”).

وكان يضخّم توقعاته قبل أن يتدرّع بالتفاؤل في روايته “بتلات الدم” (Petals of Blood) والتي نُشرت للمرة الأولى في عام 1977م وتدور أحداثها في كينيا بعد الاستقلال مباشرة بتتبع حياة أربع شخصيات تتشابك حياتها بسبب انتفاضة “ماو ماو” التي وقعت بين 1952م و1960م. وكأن هذه الرواية سدّت مسد  خيباته السابقة.

ما تفوق به “نغوغي” عن أقرانه

انضم “نغوغي” في مصاف كبار كتاب القارة الذين بادروا بالكتابة عن فكرة إنهاء الاستعمار عندما كانت العقلية التحررية الحديثة في بوادر نشوئها في إفريقيا. ورغم شروع الكُتاب في إعادة رسم المعالم التي تعبر عن هوية الإنسان الأفريقي، إلا أن شهرة “نغوغي” وإقبال الناس على أعماله تخطّت حدود أدواره الأدبية، وتجاوز صدى أعماله جميع أقطار كينيا والقارة الأفريقية.

ويمكن التعرف على ما يقبع وراء  شخصية “نغوغي” الأدبية من خلال ما يتمتع به من تناسق الأفكار والدقة العالية في سرد قصص المجتمع الأفريقي، والذي يعبر بوضوح عن دعوته للمساواة والعدالة الاجتماعية.

ولقد بذل مجهودا كبيرا في إطار العلم؛ إذ أصبح بحثه “تصفية استعمار العقل” (Decolonising the Mind: the Politics of Language in African Literature) النص الأساس في دراسات الاستعمار – وهو كتاب صدر في عام 1986م وضّح فيه اتجاهه وقدرته على رصف القضايا السياسية في شكل قصة فنية تجعلها عملا أدبيا من طراز فريد.

ويضاف إلى ما سبق أن “نغوغي” قد عبّر عن رؤيته للحركات الثقافية والسياسية منذ عهد سحيق – وإن لم يدع إليها إلا في عام 1997م، حيث ذهب إلى رفض اللغة الإنجليزية في كتاباته، وفضّل لغته “الكيكويو” (إحدى لغات عائلة البانتو التي يتحدث بها شعب كيكويو في كينيا) بجعلها قناة تواصل لكل أفكاره. وبحلول عام 1970 كان قد غير اسمه من “جيمس نغوغي” إلى “نغوغي وا ثيونغو”

بعض المواضيع التي تتركز عليها أعماله

تشمل أعمال “نغوغي” مواضيع كثيرة لا يمكن حصرها, حيث يمكن استنباطها وفق عمق الفهم والقرب من الموضوع وطبيعة الذوق الأدبي. ومن بين هذه المواضيع قضية المقاومة الأفريقية والاستعمار  “الأبيض” والأسود” والتنصير والمسيحية مقابل المعتقدات الأخرى.

أ- انتفاضة “ماو ماو” ومقاومة الاستعمار

كانت “لا تبك أيها الطفل” روايته الأولى التي نشرها عام 1964م وتعد أول رواية تنشر بالإنجليزية لكاتب أفريقي من شرق أفريقيا. وهذه الرواية حكاية عن صبي اسمه (نجورجي) يحلم بالتعليم، ولكن حلمه يتبدد حين يعتقل أبوه، ويعذب اشتباها في مناصرته لانتفاضة “ماو ماو” وبصفته من أبناء إثنية “كيكويو” التي تبنت الانتفاضة. ويجد الصبي نفسه مشتبكا مع النضال من أجل الاستقلال. وهذه الرواية امتداد لما بعدها من روايتن متتاليتن: “النهر الفاصل” الصادر في عام 1965م و “حبة قمح” الصادر في عام 1967م واللتين تمثلان مع “لا تبك أيها الطفل” ثلاثية من نوع غير معتمد.

فالروايات الثلاث سابقة الذكر تاريخ عن السيطرة الاستعمارية في كينيا. ويبدأ هذا التاريخ بضياع أرض “كيكويو”، ويتوسط بضياعهم وشعورهم بالغربة على أرضهم بعد أن تتحول إلى مزارع للمستوطنين “البيض”. ويتحولون هم أصحاب الأرض إلى وسائل تمكّنهم من استرداد أراضيهم، ثم ينتهي الإجراء بالثورة على هذا كله.

وحين يرحل الاستعمار “الأبيض” لا تنتهي المأساة؛ لأن ملاك الأرض الجدد من الأفارقة “أو السود” يسلكون نهج سابقيهم “البيض”، ويسومون المزارعين والفقراء سوء العذاب، ويدفعونهم مرة أخرى إلى الشعور بالغربة.. بل سيترك الاستعمار وراءه كتيبة من الخونة والعملاء.

ب- التنصير: المسيحية مقابل الأديان الأخرى

تناول “نغوغي” كثيرا في كتاباته آثار المنصّرين الذين يحاولون نزع المعتقدات الأصلية التي يؤمن بها الإنسان الأفريقي ويضعون موضعها الاعتقاد المسيحي. وعلى سبيل المثال: جاءت في عمله “دقائق المجد وقصص أخرى” الصادر في عام 2019م قصةُ “كاهن القرية” (The Village Priest), حيث حصل اشتباك ونزاع بين منصّر وصانع المطر – وفق المعتقد المحلي -؛ فتخاصما من أجل نيل قبول أصحاب القرية.

وفي قصة “الطير السوداء” (The Black Bird) بيّن “نغوغي” بوضوح كيف يعتقد الذين تنصّروا حديثا أن المعتقد المسيحي هو النور الذي أنقذهم من ظلمة الوهم والكفر, وكيف أدى بهم هذا إلى “فوضى” العنف والتشدد – فاستخفوا بالمعتقدات الأخرى وأنكروها:

وكما جاء في القصة:

“كان جدّي أول الشباب الذين اعتنقوا المسيحية التي جاء بها الرجل المستعمر، وهؤلاء المسيحيون الجدد تملؤهم الحماسة والتعصب حيث يرون أن كلّ ما في قومهم شرّ، ويزعمون أن كل عادة يمارسها الناس جرم، وأن كل معتقد يعتقده الناس غير معتقدهم أسطورة وخرافة وعمل شيطاني، دعي ربنا إله الظلمة. كان جدي وغيره ممن هم على منواله يحسبون أنفسهم أمناء الله اختيروا من قبل ربهم لإنقاذ الأمة الضالة من العذاب المخلد.. يرون أنه لا أحد يسطيع أن يلحق بهم الأذى، وأن الله في عونهم ويحميهم مما جعلهم يصعدون الهضبة، ويتشبثون بالأماكن المقدسة لدى الكهنة، ويرمون اللحم الذي قدموا لآلهتهم ( نغي ) تحت “مغوما” جنود الله في نزاع مع الشيطان.”

فـ “نغوغي” في هذه الرواية يحكي لنا الواقع الديني في أفريقيا والصراعات التي تحتدم بين الأديان بدافع الحماس الديني، واعتقاد كل فرد أنّ ما هو عليه هو الصحيح وما دونه يحتاج أن تطوى صفحاته.

اللغة في فكر “نغوغي وا ثيونغو”

يرى “نغوغي” أن على الأدباء الأفارقة الكتابة بلغاتهم الأم بدلا من لغة الاستعمار الفرنسي أو الإنجليزي. وفي حديثه مع الصحفي الأمريكي “ستيف بولسون” على برنامح إذاعي في مارس ,2021 قال: “أفضل طريق لتحرير العقل الإفريقي من ربقة الاستعمار هو الاهتمام باللغات الأفريقية”.

وقد أجاب “نغوغي” على سؤال “ستيف بولسون” حول سبب اعتبار كتابته باللغة المحلية (الكيكويو) خطرا وتهديدا للحكومة الكينية, قائلا:

“السؤال نفسه الذي طرحت إلى نفسي وأنا في غياهب السجن، ما مشكلة لغتي؟ دعني أبيّن لك. قد رأيت كيف استعمرنا الآخرون؛ فأول ما يفعلون أنهم يفرضون علينا لغتهم بوصفها لغة القوة، فهم يشوهون صورة لغة المستعمَرين، ويقدسون لغة الاستعمار فتصبح لغة ذكاء ودراسة واستكشاف ذهني، وهذه اللغة تقابل اللغات الأفريقية. لا بأس بها في التحدث، ولكنها ليست ملائمة للتفكير وليست مسايرة للسياسة.

أقصد بذلك:” أن اللغة الإنجليزية (أصبحت) لغة مقدسة وممجدة في حين أن اللغات الأفريقية صارت لغات إرهابية ملطخة بالدماء.”

وفيما يتعلق بتبني الإنجليزية وسيطرتها على إدارة كينيا في فترة “ما بعد الاستعمار” وعدم تغير الوضع رغم طرد البريطانيين ووصول الكينيين إلى إدارة البلاد, يجيب “نغوغي”:

“لأن عدم طبيعية النظام الاستعماري أصبح طبيعيا، واستمرّ هذا إلى الوقت الحاضر لأن استعمار العقل شيء يشقّ على العين رؤيته. فاستعمار الاقتصاد والسياسة والقوة يمكن رؤيته بسهولة، بينما استعمار العقل شيء لا يُرى، ولذا يُعدّ الأمر في غاية الخطر.

ويفهم من أعمال “نغوغي” المختلفة ومن حديثة السابق أنه يرى اللغة ككيان الأمة الذي يعبّر عن فكرها ويجسد هويتها ويشكّل ثقافتها؛ فلا ينبغي مهما كان الأمر الاستخفاف بها أو التنازل عنها لأي أمر.. لأنها وعاء الفكر والثقافة.

دور المثقف الأفريقي في “فترة ما بعد الاستعمار”

من خلال أدبيات فترة “ما بعد الاستعمار” يمكن القول بأن أفكار “نغوغي” تدعو إلى إعادة الاعتبار بشخصيته بوصفه أحد العقول الرائدة في المجال. ويظهر ذلك في نقد “نغوغي” وكتاباته السياسية والاجتماعية وتدخلاته في القضايا الثقافية حيث أثبت نفسه وجدارته كنموذج للمثقف الأفريقي القادر على تشخيص الأوضاع الاجتماعية والأمراض الثقافية في فترة “ما بعد الاستعمار”.

ومما يميّز “نغوغي” أنه ليس روائيا ينحصر عمله على السرد فحسب، فقد اهتم إلى جانب ذلك بتوعية الإنسان الأفريقي وتناول القضايا السياسية والاجتماعية في المجتمع الأفريقي، كما أثرى الساحة الأدبية بطريقته الخاصة في تصوير الموضوع، ودعا الأدباء الأفارقة إلى الاهتمام باللغات الأفريقية والكتابة بها.

ولأن المثقفين نتاج درجة تطور المجتمع في أي حضارة ودولة؛ فإن دور المثقفين الأفارقة لا ينحصر فقط في حل التحديات التي يواجهها المجتمع أثناء تطوير الحياة الواقعية وإنتاجها؛ بل يجب عليهم أيضا تسخير أنشطتهم الفكرية للنهوض بالشعوب الأفريقية. ويتطلب دور المثقف الأفريقي إنشاء مؤسسات تسمح بإنتاج كوادر تدافع من أجل المصالح الأفريقية. وهذه النقطة مهمة باعتبار أن معظم مثقفي إفريقيا مدرَّبون من قبل مؤسسات إمبريالية، مما جعل بعضهم يبررون أفعال الاستعماريين والاستعباد والاستغلال الغربي للدول الإفريقية.

وأخيرا, يتمثل دور المثقف الأفريقي في اكتشاف وفهم التاريخ الحقيقي لجميع المظاهر التي تشكل تحديًا لازدهار الشعوب الأفريقية وتقدمها, وليس أن يكون عقلا جديدا أو خادمًا آخر للقوى الإمبريالية والأجندات المتجددة للأطراف الدولية الأخرى.

ــــــــــ

مراجع

حكيم ألادي نجم الدين (2023). ” تصفية استعمار العقل وتأمين القاعدة.” نيجيريا الثقافية, عبر الرابط https://cultural.ng/2023/02/decolonizing-the-mind-and-securing-the-base/

متوكل دقاش (2022). “عن ظاهرة العنف وجدلية العرق وتصفية الاستعمار: قراءة في كتاب “معذبو الأرض.” الأفارقة للدراسات والاستشارات, عبر الرابط 2022, https://alafarika.org/ar/5370

Ainehi Edoro (2021). “What Ngũgĩ wa Thiong’o Taught Me About the Power of Language to Transform Literature.” Brittle Paper, retrieved from https://bit.ly/3yTCnA9

Akani, J. N. (2015). “The Non-Conformist Intellectual’s Role as a Socio-Political Activist in Ngugi wa Thiong’o’s Wizard of the Crow.” AFRREV LALIGENS: An International Journal of Language, Literature and Gender Studies, 4(2), 31-44.

Howard University (2020). “Biography Ngugi wa Thiong’o”. Retrieved from https://bit.ly/3LEDb3l

Somnath Sarkar (2022). “Themes in A Grain of Wheat.” English Literature, retrieved from https://bit.ly/3JvR3ds

Steve Paulson (2022). “Never Write In The Language of the Colonizer.” To the Best of Our Knowledge, retrieved from https://bit.ly/3YUneZW

Ugwuanyi, K. O. (2019). “The Postcolonial Intellectual: Ngugi wa Thiong’o in Context” By Oliver Lovesey Ashgate Publishing, 2015, 236+ vii pp. Cambridge Journal of Postcolonial Literary Inquiry, 6(3), 446-447.

Wa Thiong’o, N. (1992). “Decolonising the mind: The politics of language in African literature”. East African Publishers.

Zeynep Gulsah Capan. “Wa Thiong’o, Ngugi.” Global Social Theory, retrieved from https://bit.ly/3yOmuen

انشر المقال
بقلم آدم يوسف أموبولاجي نائب مدير التحرير والمدقق اللغوي.
- باحث نيجيري مهتم بالأدب والنقد. - طالب ماجستير في الدراسات الأدبية - جامعة القصيم.